◄إنّ الإسلام في دعوته إلى وحدة الأديان في مصدرها وفي جوهرها، وإلى الإيمان بجميع الرُّسل بلا تفريق بينهم ولا تعصب، إنما يدعو جميع الشعوب إلى وحدتها الإنسانية الكبرى، على أساس عقيدة موضوعية جامعة، إنسانية عالمية، تتوحد فيها وتتساوى على قاعدة وحدة القيم الأساسية والأخوة الإنسانية والتعاون على البرّ. إنّها عقيدة هادفة إلى تحرير الإنسانية من استغلال بعضها البعض، وإلى تأهيلها لرسالتها العلمية الكونية التي حملت مسؤوليتها الخالدة، والتي لا سبيل إلى القيام بها إلّا بعد التحرر من الاستغلال والاستعباد للحكم أو للشهوات ومن تبديد الطاقات من أجل منافع ذاتية أو في صراعات عنصرية أو طبقية تدمرها. فهي دعوة إلى الوحدة العالمية والأخوة الإنسانية تستمد حيويتها من عقيدة إنسانية موضوعية ذات شريعة عالمية متوازنة القيم، لا تتجزأ فيها الحرّية والعدالة ولا تتنافران. فلا حرّية بلا عدالة، ولا عدالة بلا حرّية. ولا يستعبد فيها الأفراد باسم الجماعة، ولا المجموع لصالح بعض الأفراد. فلا حرّية ولا كرامة لجماعة أفرادها عبيد لحكام غير مسؤولين، ولا سلام لشعوب تفصل بينها هوة في مستوى المعيشة أو تمزّقها صراعات عنصرية أو طبقية أو مذهبية.
ولا ريب أنّ هذا التطوّر الشامل لمشاكل الإنسانية في مجموعها، وهذه الدعوة إلى وحدة الإنسانية وحدة عقيدة ومصير، كانت جوهر وأساس التصوّر الإسلامي للمجتمع الدولي. ومن هنا، فإنّ معالجة الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي لحقوق الإنسان، انطلقت من هذه الأُسس الراسخة.
وإذا كان المقام لا يتسع هنا لاستعراض موقف الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بقضية حقوق الإنسان استعراضاً تفصيلياً شاملاً، فحسبنا أن نشير إلى أنّ الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي كان لهما السبق المطلق في إرساء دعائم حقوق الإنسان في وقت السلم وفي وقت الحرب على حدّ سواء. فلقد أعلنت الشريعة الإسلامية المكانة السامية للإنسان في هذا الكون: (وَلَقَدْ كَرِّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَملْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلنَاهُمْ عَلَى كَثيرٍ مِّمَّنْ خَلقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء/ 70). (وَإِذ قَالَ رَبُّكَ للِمَلائِكةِ إِنَّي خَالِقٌ بَشراً مِّن صَلصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسنُونٍ فَإِذا سَوَّيتُهُ وَنَفَختُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدينَ فَسجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهمْ أَجْمَعُونَ، إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) (الحجر/ 28-31).
وأرست الشريعة الإسلامية مبدأ المساواة بين البشر على أُسس وطيدة. فالقرآن الكريم يقرر المبدأ العام: (إِنَّ أَكْرَمكُمْ عِندَ الله ِأَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13). ويقول الرسول (ص): "يا أيّها الناسُ، إنّ رَبَّكم واحدٌ، كُلُّكم لآدم وآدم من تراب، إنّ أكرمكم عند الله اتقاكم، وليس لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر فَضْلٌ إلّا بالتقوى. أَلاَ هل بَلَّغْت؟ اللهم فاشهد. أَلاَ فليبلغ الشاهدُ منكم الغائبَ".
وكفلت الشريعة الإسلامية مبدأ المساواة أمام القانون: (إِنَّ اللهَ يأْمُرُكمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلى أَهْلهَا، وَإِذَا حَكَمْتُم بَينَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ) (النساء/ 58). (وَلاَ يَجرِمنَّكُمْ شَنآنُ قَومٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْربُ لِلتَّقْوَى) (المائدة/ 8). ويقول الرسول (ص): "إنما أهلك من قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق الشريفُ تركوه، وإذا سرق الضعيفُ أقاموا عليه الحدَّ. والله لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطعتُ يدَها".
ويكفل الإسلام الحرّية الدينية، فلكلّ إنسان الحرّية في اختيار العقيدة التي يؤمن بها: (لاَ إِكرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ) (البقرة/ 256). (وَلوْ شَاءَ رَبُّكَ لأَمنَ مَن فِي الأَرضِ كُلُّهمْ جَمِيعاً، أفَأَنتَ تُكرِهُ النَّاسَ حتَّى يَكونُوا مُؤْمِنينَ) (يونس/ 99). وقد كفلت الدولة الإسلامية لغير المسلمين الذين يقيمون فيها حرّية العقيدة.
وقد أعلنت الشريعة الإسلامية حرّية الفكر، ودعت الإنسان إلى التأمّل الدائب وإعمال العقل الذي يقود الإنسان إلى الهداية وإلى الطريق القويم: (أَفَلمْ يَسِيُروا فِي الأَرضِ، فَتكُونَ لَهُم قُلوبٌ يَعْقلُونَ بِهَا، أَوْ أَذَانٌ يَسْمعُونَ بِهَا، فإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ، وَلكِن تَعْمَى القُلوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج/ 46). وقام نظام الحكم في الإسلام على أساس الشورى (وَشَاورْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران/ 159). (وَأَمْرُهمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى/ 38).
ومن ناحية أخرى، أقامت الشريعة الإسلامية نظاماً إنسانياً متكاملاً لحكم سير عمليات القتال التي تخوضها الجيوش الإسلامية في حروبها ضد الأعداء.
وقد سبقت الشريعة الإسلامية الحركة الإنسانية المعاصرة بمئات السنين، ويُعَدّ المؤلِّف محمّد بن الحسن الشيباني أوّل مؤلف فقهي في القانون الدولي الإنساني.►
المصدر: كتاب حقوق الإنسان مجلد4 (إعداد: محمود شريف بسيوني)
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق